سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


هذا تعنت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر فاستعرضوا بقرة فذبحوها لقضوا ما أمروا به، ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ولغة بني عامر ادعِ بكسر العين، و{ما} استفهام رفع بالابتداء، وهي خبره، ورفع {فارض} على النعت للبقرة على مذهب الأخفش، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره لا هي فارض، والفارض المسنة الهرمة التي لا تلد، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم، تقول فرضت تفرض بفتح العين في الماضي، فروضاً، ويقال فرضت بضم العين، ويقال لكل ما قدم وطال أمده فارض، وقال الشاعر [العجاج]: [الرجز]
يا رب ذي ضغن عليَّ فارض *** له قروء كقروء الحائض
والبكر من البقر التي لم تلد من الصغر، وحكى ابن قتيبة أنها التي ولدت ولداً واحداً، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة، قاله مجاهد، وحكاه أهل اللغة، ومنه قول العرب: العوان لا تعلم الخمرة. وحرب عوان: قد قوتل فيها مرتين فما زاد، ورفعت {عوان} على خبر ابتداء مضمر، تقديره هي عوان، وجمعها عون بسكون الواو، وسمع عون بتحريكها بالضم.
و {بين}، بابها أن تضاف إلى اثنتين، وأضيفت هنا إلى {ذلك}، إذ ذلك يشار به إلى المجملات، فذلك عند سيبويه منزلة ما ذكر، فهي إشارة إلى مفرد على بابه، وقد ذكر اثنان فجاءت أيضاً {بين} على بابها.
وقوله: {فافعلوا ما تؤمرون} تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت، فما تركوه، و{ما} رفع بالابتداء، و{لونها} خبره، وقال ابن زيد وجمهور الناس في قوله {صفراء}، إنها كانت كلها صفراء، قال مكي رحمه الله عن بعضهم: حتى القرن والظلف، وقال الحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف فقط، وقال الحسن أيضاً: {صفراء} معناه سوداء، وهذا شاذ لا يستعمل مجازاً إلا في الإبل، وبه فسر قول الأعشى ميمون بن قيس: [الخفيف]
تلك خيلي منه وتلك ركابي *** هنَّ صفرٌ أولادُها كالزبيب
والفقوع: نعت مختص بالصفرة، كما خص أحمر بقانئ، وأسود بحالك، وأبيض بناصع، وأخضر بناضر، و{لونها} فاعل ب {فاقع}.
و {تسر الناظرين} قال وهب بن منبه: كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، فمعناه تعجب الناظرين، ولهذا قال ابن عباس وغيره: الصفرة تسر النفس، وحض ابن عباس على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش، وحكي نهي ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهمّ، وقال أبو العالية والسدي: {تسر الناظرين} معناه في سمنها ومنظرها كله، وسألوه بعد هذا كله عما هي سؤال متحيرين قد أحسوا بمقت المعصية، و{البقر} جمع بقرة، وتجمع أيضاً على باقر، وبه قرأ ابن يعمر وعكرمة، وتجمع على بقير وبيقور، ولم يقرأ بهما فيما علمت، وقرأ السبعة: {تشابه} فعل ماض، وقرأ الحسن {تشّابهُ} بشد الشين وضم الهاء، أصله تتشابه، وهي قراءة يحيى بن يعمر، فأدغم، وقرأ أيضاً {تَشَابهُ} بتخفيف الشين على حذف التاء الثانية، وقرأ ابن مسعود {يَشابهُ} بالياء وإدغام التاء، وحكى المهدي عن المعيطي {يشَّبَّهُ} بتشديد الشين والباء دون ألف، وحكى أبو عمرو الداني قراءة {متشبه} اسم فاعل من تَشَبَّه، وحكي أيضاً {يتشابهُ}.
وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ودليل ندم وحرص على موافقة الأمر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبداً»، والضمير في {إنا}، هو اسم {إن}، و{مهتدون} الخبر، واللام للتأكيد، والاستثناء اعتراض، قدم على ذكر الاهتداء، تهمماً به.


{ذلول}: مذللة بالعمل والرياضة، تقول بقرة مذللة بيِّنة الذِّل بكسر الذال، ورجل ذلول بين الذُّل بضم الذال، و{ذلول} نعت ل {بقرة}، أو على إضمار هي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: {لا ذلولَ} بنصب اللام.
و {تثير الأرض}، معناه بالحراثة، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة، أي لا ذلول مثيرة، وقال قوم {تثير} فعل مستأنف، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها من نكرة، و{تسقي الحرث} معناه بالسانية أو غيرها من الآلات، و{الحرث} ما حرث وزرع.
و {مسلمة} بناء مبالغة من السلامة، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية: معناه من العيوب، وقال مجاهد: معناه من الشيات والألوان، وقال قوم: معناه من العمل.
و {لا شية فيها}: أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره، والموشي المختلط الألوان، ومنه وشي الثوب، تزيينه بالألوان، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول، والثور الأشيه الذي فيه بلقة، يقال فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه، كل ذلك بمعنى البلقة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يُسْرٌ، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم.
وقصة وجود هذه البقرة على ما روي، أن رجلاً من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة، فأرسلها في غيضة، وقال: اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه: إن أباك قد استودع الله عجلةً لك، فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها، وكانت مستوحشة، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها، وروت طائفة أنه كان رجل من بني إسرائيل براً بأبيه فنام أبوه يوماً وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفاً، فقال له ابن النائم: اصبر حتى ينتبه أبي، وأنا آخذه منك بسبعين ألفاً، فقال له صاحب الجوهر: نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفاً، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفاً، فقال له ابن النائم: والله لا اشتريته منك بشيء براً بأبيه، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده، وقال قوم: وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها، هذا معناه، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، وكانت قيمتها- على ما روي عن عكرمة- ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام، وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة السلماني، وقيل بوزنها مرتين، وقال السدي: بوزنها عشر مرات، وقال مجاهد: كانت لرجل يبر أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير، وحكى مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء، ولم تكن من بقر الأرض، وحكى الطبري عن الحسن أنها كانت وحشية.
و {الآن} مبنيٌّ على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام، ألا ترى أنها لا تفارقه في الاستعمال، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف، ولأنه واقع موقع المبهم، إذ معناه هذا الوقت، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل، وقرئ {قالوا الآن} بسكون اللام وهمزة بعدها، {وقالوا الان} بمدة على الواو وفتح اللام دون همز، {وقالوا الآن} بحذف الواو من اللفظ دون همز، {وقالوا ألآن} بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل، كما تقول يا الله.
و {جئت بالحق} معناه- عند من جعلهم عصاة- بينت لنا غاية البيان، و{جئت بالحق} الذي طلبناه، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق، ومعناه عند ابن زيد- الذي حمل محاورتهم على الكفر-: الآن صدقت. وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف، وقالوا: هذه بقرة فلان، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن نحر أجزأت.
وقوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} عبارة عن تثبطهم في ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب القرظي: كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها، وقال غيره: كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القتال، وقيل: كان ذلك للمعهود من قلة انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء، وقد تقدم قصص القتيل الذي يراد بقوله تعالى: {وإذ قتلتم نفساً}، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم.
و {ادارأتم} أصله: تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر الابتداء بمدغم، فجلبت ألف الوصل، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم قتل القتيل إلى بعض، قال الشاعر: [الرجز]
صَادَفَ درءُ السَّيْلِ دَرْءاً يَدْفَعُهْ ***
وقال الآخر [الخفيف]:
مدْرأٌ يدرأُ الخُصُومُ بقولٍ *** مِثْلَ حَدِّ الصِّمْصَامَةِ الهُنْدُواني
والضمير في قوله: {فيها} عائد على النفس وقيل على القتلة، وقرأ أبو حيوة وأبو السوار الغنوي {وإذ قتلتم نسمة فادّارأتم}، وقرأت فرقة {فتدارأتم} على الأصل، وموضع {ما} نصب بمخرج، والمكتوم هو أمر المقتول.
وقوله: {اضربوه ببعضها} آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا قبره، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة، وقال القرظي: لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد، وقال السدي: ضرب باللحمة التي بين الكتفين، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني: ضرب بالفخذ، وقيل: ضرب باللسان، وقيل: بالذنب، وقال أبو العالية: بعظم من عظامها.
وقوله تعالى: {كذلك يحيي الله الموتى} الآية، الإشارة ب {كذلك} إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره: فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبر، ودلالة على البعث في الآخرة: وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله تعالى: {اضربوه ببعضها}، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتاً كما كان، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة.


{قست} أي صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي قال: إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب بعدما رأوا هذه الآية العظمى، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم، قال عبيدة السلماني: ولم يرث قاتل من حينئذ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وبمثله جاء شرعنا، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سبباً لأن لا يرث قاتل: ثم ثبت ذلك الإسلام، كما ثبت كثيراً من نوازل الجاهلية، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما: إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك.
وقوله تعالى: {فهي كالحجارة} الآية، الكاف في موضع رفع خبر ل هي، تقديره: فهي مثل الحجارة {أو أشد} مرتفع بالعطف على الكاف، {أو} على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي، و{قسوة} نصب على التمييز، والعرف في {أو} أنها للشك، وذلك لا يصح في هذه الآية، واختلف في معنى {أو} هنا، فقالت طائفة، هي بمعنى الواو، كما قال تعالى: {آثماً أو كفوراً} [الإنسان: 24] أي وكفوراً، وكما قال الشاعر [جرير]: [البسيط]
نال الخلافة أو كانَتْ له قدراً *** كما أتى ربَّهُ موسى على قَدَر
أي وكانت له. وقالت طائفة هي بمعنى بل، كقوله تعالى: {إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147] المعنى بل يزيدون، وقالت طائفة: معناها التخيير، أي: شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وقالت فرقة: هي على بابها في الشك. ومعناه: عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة. وقالت فرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمّداً حباً شديداً *** وعباساً وحمزة أو عليّا
ولم يشك أبو الأسود، وإنما قصد الإبهام على السامع، وقد عورض أبو الأسود في هذا، فاحتجّ بقول الله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24]، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود، ولا يتم معنى الآية إلا ب أو، وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد، ومثل هذا قولك: أطعمتك الحلو أو الحامض، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين، وقالت فرقة: إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة يترجى لها الرجوع والإنابة، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته، فصارت أشد من الحجارة، فلم تخل أن كانت كالحجارة طوراً أو أشد طوراً، وقرأ أبو حيوة: {قساوة}، والمعنى واحد.
وقوله تعالى: {وإن من الحجارة} الآية، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة، وقال قتادة: عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم، وقرأ قتادة: {وإنْ} مخففة من الثقيلة، وكذلك في الثانية والثالثة، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد، في {لما}، وما في موضع نصب اسم ل {إن}، ودخلت اللام على اسم {إن} لمّا حال بينهما المجرور، ولو اتصل الاسم ب {إن} لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين، وقرأ مالك بن دينار: {ينفجِر} بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم، ووحد الضمير في {منه} حملاً على لفظ {ما}، وقرأ أبي بن كعب والضحاك {منها الأنهار} حملاً على الحجارة، و{الأنهار} جمع نهر وهو ما كثر ماؤه جرياً من الأخاديد، وقرأ طلحة بن مصرف: {لمّا} بتشديد الميم في الموضعين، وهي قراءة غير متجهة، {ويشقق} أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهاراً، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح، وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون، وقيل في هبوط الحجارة تفيؤ ظلالها، وقيل المراد: الجبل الذي جعله الله دكاً، وقيل: إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعاً، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الجذع الذي أَنَّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لفظة الهبوط مجاز لما كانت الحجارة يعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة أي: تبعث من يراها على شرائها، وقال مجاهد، ما تدرى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا {من خشية الله}، نزل بذلك القرآن، وقال مثله ابن جريج، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى {يريد أن ينقض} [الكهف: 77]، وكما قال زيد الخيل: [الطويل]
بِجمعٍ تضِل البُلْقُ في حَجَراتِهِ *** ترى الأكمَ فيه سجداً للحوافرِ
وكما قال جرير: والجبال الخشع، أي من رأى الحجر هابطاً تخيل فيه الخشية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف: لأن براعة معنى الآية تختل به، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدراً ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة، و{بغافل} في موضع نصب خبر {ما}، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية، وقرأ ابن كثير {يعملون} بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} الآية، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطاب: التقرير على أمر فيه بعد، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب، وقال مجاهد والسدي: عني بالفريق هنا الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئاً حكماً أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها، وقال ابن إسحاق والربيع: عُني السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ثم بدلوا بعد ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا القول ضعف، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، وقرأ الأعمش، {كَلِمَ الله}، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باقٍ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم وأن ذلك ممكنٌ في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14